عند الإنصات لرجال السياسة وتتبع الإشاعات المتداولة في الوسط السياسي المغربي حاليا، يتملكنا إحساس بأن مسألتي رئيس الحكومة المقبلة والأغلبية البرلمانية المشكلة لها قد حسمتا سلفا.
ثمة إشاعة تفيد بأن المخططين الاستراتيجيين للمخزن (الذين يشتغلون في الظل) قد توقعوا كل شيء، ولم يعد ينقصهم عدا الانتقال إلى مرحلة العمل لتنزيل تصوراتهم على أرض الواقع. وبذلك، يصبح الهدف من تنظيم الانتخابات منحصرا في إضفاء الشرعية «الديمقراطية» على هذا المخطط الماكيافيلي لا أقل ولا أكثر.
وإذا تبين أن هذه الإشاعة صحيحة، فإن هذا يعني أن المغرب في طريقه إلى التراجع خمسين سنة إلى الوراء.. سنعود إلى بداية الستينيات مع الدستور الأول الممنوح من قبل الحسن الثاني وأولى الانتخابات التشريعية في عهد المغرب المستقل، كما لو أن عجلة الزمن تعطلت؛ فماذا يستفاد من هذا الوضع؟
أولا، لا يبدو أن المخزن استوعب ما يحدث في الوسطين الثقافي والحضاري اللذين ننتمي إليهما.. إنه يستمر في تأكيد أن الربيع العربي لا يعني المغرب في شيء. ورغم أن البلاد تعرف مظاهرات ويعبر السكان عن الحاجة إلى التغيير، فإن ذلك لا يغير شيئا من آراء هؤلاء المخططين الاستراتيجيين للمخزن: المظاهرات لا تعدو أن تكون عمليات هامشية تثيرها فئة معزولة وليس لها أي تأثير على استقرار النظام. وبعدها، يعودون إلى القول إن المغرب مختلف تمام الاختلاف عن تلك البلدان، وإن أوضاعه هادئة. وهذه عبارات اعتدنا سماعها من الأنظمة العربية، ويتقنها الرئيس السوري بشار الأسد.
أكثر من ذلك، لا تعتبر هذه الخطوة، في حالة ثبتت صحتها، تراجعية فقط، بل انتحارية.. تراجعية لأن المدافعين عن هذه الأطروحة يستمرون في اعتماد منطق قطع معه المغرب منذ نصف قرن، ويتناسون أن مغرب اليوم مختلف تماما. ارتفع سكان المدن وتناقص سكان القرى، وبات المجتمع أكثر انفتاحا وأقل انغلاقا على نفسه، أكثر طموحا وأقل يأسا، أكثر تمردا وأقل انصياعا، أكثر استقلالية وأقل خنوعا، أكثر إلحاحا وأقل سلبية؛ وهي انتحارية لأن السياق الوطني والدولي لم يعد يسمح بمثل هذه اللعبة.. وطنيا، ما فتئ المجتمع المدني يتقوى ويعلن أنه قادم بقوة مستقبلا، والرأي العام يزداد حضورا، بالموازاة مع انبعاث إحساس المواطنة من رماده. وعلى هذا الأساس، لم يعد هناك مجال للمناورات والممارسات الرديئة. أما على الصعيد الدولي، فيبدو أن ثمة دواعيَ إلى إعادة تأكيد أن الحرب الباردة وضعت أوزارها، وبذلك انقطع دعم القوى الغربية، الأعمى والمطلق، عن الأنظمة العربية «الصديقة»، ولعل انهيار نظامي زين العابدين بنعلي بتونس ومبارك بمصر خير دليل على صحة هذا الأمر. ويبدو أن المخزن لا يقوى، بعد إقرار الدستور الجديد، على قبول أي تصور جديد عدا الاستمرار في اعتماد الأساليب القديمة. والواقع أنه كان لزاما استخلاص الدروس والعبر من تشريعيات 2007 التي شهدت نسبة متدنية من المشاركة.. واضح أننا لم نستخلص عبرها ودروسها، وإنما فضلنا سياسة «النعامة»: ندير الظهور ونحني الرؤوس لتمر العاصفة.
لنكن واضحين.. لقد دامت اللعبة الطفولية لطبقة سياسية واهنة أكثر من اللازم. ويجب أيضا العودة إلى جادة الصواب والتعبير عن حاجة المغرب الماسة إلى نخبة مستقلة وذات مصداقية ومفعمة أملا ومتقدة طموحا. لا أحد مغفل، والجميع يعلم الوصفات التي تحضر في الطنجرة المخزنية في هذا الباب. لقد أصيب المغاربة بالتخمة، بل وبالاشمئزاز أيضا، وهم يريدون الآن شيئا آخر.. يطمحون، على غرار باقي الشعوب العربية، إلى الحداثة، أي إلى الحرية والديمقراطية والكرامة. ولهذا السبب، ينبغي إقرار قطيعة جذرية مع التصور المخزني الذي يعتبر المجتمعَ قاصرا أزليا يتوجب فرض وصاية أبدية عليه، ويرى في المواطن تهديدا مستمرا ينبغي إخضاعه للمراقبة والتزام الحيطة والحذر منه. إن هذا التصور يتعارض مع دولة القانون، لأنه يعتبر كل مواطن وقود تخريب إلى حين ثبوت العكس، في حين أن القاعدة في دولة القانون تقر ببراءة كل شخص إلى حين ثبوت العكس. إن هذا النوع من الرؤى يتعارض كذلك مع المنهجية الديمقراطية ويصيبها في مقتل، ويتمثل هدفها في معارضة أي حركة أو حركية، ولهذا السبب تحكم على المجتمع بالجمود ولا تتيح أي أفق تقدمي.
ولا مفاجأة إذا قلت إن الإصلاح الدستوري، وكل اللغط الذي أحاط به، لن يغير في واقع الأمر شيئا، إذا لم يبرز سياسيون جدد قادرون على إيقاد جذوة الأمل لدى سكان فقدوا الثقة في الطبقة السياسية.
أكيد كذلك أن التغيير لن يتأتى عن طريق تحالف بعينه، أيا كان عدد مكوناته، لأن الصفر إذا أضيف إلى مثله يبقى صفرا. ولا يمكن استعادة ثقة المواطنين وإعطاء انطلاقة جديدة للحياة السياسية المغربية إلا إذا تمت تعبئة قوى جديدة ودعم ركائز مجتمع مدني مستقل واحترام قواعد اللعبة السياسية. بهذه الطريقة وحدها، يمكن أن نخلق تجديدا في المصالح ونشجع المواطنين على المشاركة والقطع مع زمن العزوف. باختصار، بهذا الأسلوب وحده يمكن أن يولد ويتقوى مسلسل ديمقراطي يأبى أن يرى النور. بتعبير آخر، ما جدوى تنظيم انتخابات في غياب الأمل في تغيير النخب؟
إدريس بنعلي