المغرب الموحد / القاهرة
ثمة اتفاق عام على أن تركيا في السنوات الست الماضية، من حيث اهتمامها ونشاطها في منطقة الشرق الأوسط، قد فرضت نفسها بقوة على قضايا ومشكلات المنطقة من جانب،
كما نجحت في تطوير علاقاتها مع العديد من البلدان في المنطقة من جانب آخر. هذه الدينامية/ الحركية الجديدة في السياسة التركية باتت معروفة بالدور التركي الصاعد، وباتت تثير أسئلة كبرى من قبيل هل ستقود تركيا المنطقة بدلا من لاعبيها التقليديين، وهل تحركاتها مرتبطة بتصور دولي / اقليمى لتحجيم السياسة الإيرانية، وهل تقلص أو غياب الدور المصري دفع تركيا إلى ملء الفراغ الاستراتيجي الحادث في المنطقة؟، وهل قررت تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية أن تحجم علاقاتها مع إسرائيل مقابل توسيع وتطوير علاقاتها مع العالم العربي؟ وهل يمكن لأنقرة أن تلعب دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل وتنجح حيث فشلت الولايات المتحدة؟
أسئلة عديدة تكشف عن حجم الاهتمام بالتحركات التركية عربيا وشرق أوسطيا، كما تؤكد بصورة أو بأخرى أن تركيا باتت لاعبا إقليميا مهما، وأن رؤيتها لذاتها ولجوارها لم تعد مرهونة وحسب بالتطلع نحو الحصول على عضوية الاتحاد الاوروبى، بل أيضا بالقيام بدور قائد في المنطقة العربية والشرق الأوسط معا. بيد أن الحديث عن تطور دور طرف أو لاعب اقليمى في شئون الإقليم لا يعنى بالضرورة أنه يمثل خصما من أدوار لاعبين إقليميين آخرين، أو أنه دور بديل لهم. الأساس. منطقة الشرق الأوسط تستطيع أن تستوعب العديد من الأدوار الإقليمية والدولية نظرا لكثرة مشاكلها وتعقدها وارتباط تلك المشكلات والقضايا بسياسات واستراتيجيات قوى دولية عديدة، فضلا عن ارتباطها بالمعادلات الإقليمية المعقدة أصلا.
الأساس ..
تحولات داخلية تركية
وبداية فمن المهم القول أن تصاعد الدور التركي في شئون الإقليم في جزء منه نتيجة تحولات حدثت في داخل تركيا نفسها، وتحديدا التغير الذي أصاب المجتمع التركي نفسه وابتعاده التدريجي عن نموذج العلمانية الاقصائية التي سادت في العقود الست الماضية. وفى جزء آخر هو نتيجة لتفاعل تركيا مع القوى الإقليمية الأساسية في المنطقة، وقبول القوى الرئيسية في الإقليم لهذا الدور، وانخراط الجميع في عهد جديد يتضمن نوعا من التنسيق تجاه قضية أو موقف معين، ومرورا بتطوير وتوسيع مجالات التجارة المشتركة، ونهاية بتطوير العلاقات وفقا لأسس جديدة تعتمد معايير بناء المصالح وتسوية النزاعات إن وجدت سلميا، وبناء تصورات ذات طابع استراتيجي لمستقبل الإقليم ككل.
وإذا تصورنا أن تركيا كانت راغبة في لعب دور نشط في شئون الإقليم ومشكلاته، وان القوى الرئيسة فيه لم تكن تقبل أو توافق على مثل هذا الدور، فيكون التساؤل الملح كيف سيكون هذا الدور التركي؟
يقينا لم يكن ليحدث. والدليل على ذلك ما حدث لدور الوساطة التركية بين إسرائيل وسوريا، فحين اتفق الطرفان الاسرائيلى والسوري في غضون العام 2008 على أن تلعب تركيا دور الوسيط بينهما، وان ترعى مباحثات غير مباشرة، استطاعت الدبلوماسية التركية أن تؤدى هذا الدور بالفعل. وحين اختلف الطرفان الاسرائيلى و السوري على طبيعة الدور التركي ومدى حياديته، ثم تطور الأمر إلى رفض تل أبيب السماح لتركيا أن تلعب دور الوسيط مع سوريا، بعد أن وقفت أنقرة موقفا مناهضا وقويا تجاه العدوان الاسرائيلى على قطاع غزة مطلع العام 2009، ثم مع نجئ حكومة نتنياهو اليمينية، توقف الدور التركي عن القيام بدور الوسيط، لا لشئ، إلا لأن تل أبيب رفضت هذا الدور التركي، ومن ثم توقفت أنقرة عن دور الوسيط.
فالمسألة ليست أن ترغب قوة إقليمية ما أن تلعب دورا معينا في شئون الإقليم، بل إلى أي مدى ترحب وتقبل القوى الرئيسية تاريخيا في الإقليم بهذا الدور الوافد.
نجاح المبادرات
الإقليمية هو معيار التأثير
والصحيح هنا أن جزءا من الأدوار الإقليمية للاعبين الإقليميين مرتبط أساسا بالقدرة على طرح المبادرات ووضع أسس وقواعد جديدة للتفاعلات بين أطراف الإقليم، ولكن الجزء الأكبر هو في نجاح هذه المبادرات، وهو ما يكون غالبا رهنا لإرادات الأطراف الأخرى الفاعلة في الإقليم. ولذا فإن مقولة أن الدور التركي النشط هو بسبب تقلص أدوار قوى عربية رئيسية مثل مصر أو السعودية، تبدو مقولة غير علمية و لا أساس لها، والغالب فيها تسطيح الأمور وتغييب الحقائق. فالناظر إلى علاقات مصر وتركيا يجد أنها شهدت نموا وتطورا كبيرا في الأعوام الثلاثة الماضية. وهناك حوار استراتيجي مصري تركي يُعنى بتبادل الآراء حول مشكلات الإقليم، وتنسيق المواقف التركية المصرية تجاهها. ونلحظ هنا، أن تركيا، وبالرغم من مناداة البعض من الفلسطينيين والعرب أن تلعب دورا في تحقيق المصالحة الفلسطينية بدلا من الدور المصري، وأن تتولى ملف فك الحصار عن قطاع غزة وتدير مباحثات بين حركة حماس وتل أبيب، إلا أن أنقرة وقفت وأيدت الجهود المصرية في هذا الملف الشائك والمعقد، واعتبرت أن لا بديل عن الدور المصري في هذا الملف تحديدا ذي الارتباط العضوي بالأمن القومي المصري مباشرة. وفى الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس التركي عبد الله غول للقاهرة منتصف يوليو الماضي، أكد على أن لا تنافس بين القاهرة وأنقرة، بل تكامل وتنسيق في الأدوار وتبادل للآراء. وأن تركيا لا تنوى إطلاقا أن تحل محل مصر. القاهرة من جانبها أكدت على أن المجال مفتوح لتعزيز العلاقات الثنائية ورفع التبادل التجاري من 3 مليارات دولار إلى خمس مليارات دولار في غضون عامين أو ثلاثة على الأكثر.
علاقة تركيا بمصر ليست الوحيدة التي شهدت تطورا ملفتا، فهناك العلاقة مع سوريا التي انتهت إلى إلغاء فيزات السفر بين البلدين، وتشكيل لجنة حوار استراتيجي وتعزيز العلاقات التجارية، فضلا عن التقارب الشديد في تحليل الأوضاع الإقليمية الجارية.
توجه تركي جديد
معنى القول أن الدور التركي النشط مسنود بأمرين، الأول قبول الإقليم لهذا الدور، والثاني الإدراك الجديد أو التوجه الجديد الذي تنطلق منه السياسة الخارجية التركية نفسها، والذي صاغه وعبر عنه وزير الخارجية التركي احمد داود وغلو حين كان مستشارا لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ، وقوامه أن تركيا هي دولة مركزية centrale" في الإقليم، وليست دولة طرفية "frontier"، كما كان ينظر إليها أيام الحرب الباردة حينما كانت تعتبر حصنا ضد التهديد الشيوعي، كما أنها ليست فقط الدولة الجسر "bridge" بين العالمين الغربي والشرقي. ولهذا فهي قادرة على توفير الأمن والاستقرار لنفسها ولجيرانها في الإقليم الأوسع المحيط بها، والذي يضم عدة أقاليم، هي الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والبحر المتوسط والخليج العربي والبحر الأسود، بل يمكنها أن تكون دولة "قائدة" أو على الأقل مؤثرة في كل هذه الأماكن في نفس الوقت.
مركزية تركيا بهذا الشكل الجيوبوليتكى ليست كافية في حد ذاتها، بل لابد أن تُدعم بمجموعة مبادرات، تجعل منها نموذجا فريدا، تتضمن تعميق وترسيخ الديمقراطية، واستيعاب الخلافات داخل المجتمع التركي وتقوية التنسيق والتوازن بين المؤسسات التركية المختلفة، وأيضا تحقيق التوازن بين مبدأي الحرية والأمن.
أهداف
الحركية التركية الجديدة
وفقا لهذه الرؤية الكلية، حدد أوغلو أهدف السياسة الخارجية التركية، كما وردت في كتابه "العمق الاستراتيجي"، على النحو التالي:
1ـ أن تصبح تركيا لاعبا إقليميا رئيسا، أو قوة عظمى إقليمية في منطقة الشرق الأوسط والبلقان.
2ـ تكثيف سياسات الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع دول الجوار، وهو ما يعبر عنه بـ "مبدأ الكسب للجميع"
3ـ ضمان أمن تركيا القومي واستقرارها الداخلي عبر المساهمة في بناء الأمن والاستقرار في البلدان المحيطة (مبدأ سلام في الداخل سلام في الخارج)، والوصول بالنزاعات لاسيما ذات الطابع التاريخي مع الدول المجاورة إلى درجة الصفر. ( مبدأ صفر نزاع).
4 ـ الاستمرار في جذب انتباه الاتحاد الاوربى لما يمكن إن تلعبه تركيا في بناء السلام والأمن على مستوى الإقليم، والاستفادة أوروبيا من هذا الدور لتعزيز مكانة الاتحاد الاوربى عالميا. لعل ذلك يجعل أوربا أكثر مرونة في قبول تركيا عضوا بها، وليس كما هو الحال إذ تستجدى أنقرة هذه العضوية بلا آذان صاغية.
القوة الناعمة التركية
.. التواصل والتأثير
هذه الرؤية الكلية أفسحت بدورها المجال أمام أساليب القوة الناعمة، وليست القوة الصلبة، لكي تكون القنوات الرئيسة التي تعتمدها أنقرة في التواصل مع قضايا وشعوب المنطقة، ويمكن أن نشير إليها كما يلي:
1 ـ اعتماد القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية وهي تعني علمانية أقل تشددًا في الداخل، ودبلوماسية نشطة في الخارج وخاصة في المجال الحيوي لتركيا.
2 ـ تغليب المصالح الاقتصادية والشراكات مع دول الجوار، وجعلها ممرا لتصفية الخلافات معها. مع التركيز على سبل الحوار كأساس لحل تلك الخلافات.
3ـ التوجه نحو كل الإطراف الإقليم بنفس القوة والالتزام ببناء علاقات متعددة الإبعاد وفى أكثر من منطقة جغرافية.
4 ـ أن تصبح تركيا على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليمية، وأن تقوم بالمبادرات المختلفة التي تنهى العداوات التاريخية، وصولا إلى بناء شراكات قوية وقابلة للاستمرار.
منغصات
وتضحيات الدور
غير أن تطبيق هذه المبادئ لم يخل من منغصات، فبالرغم من أن تركيا حصدت مغانم كثيرة جراء أساليبها الناعمة تجاه القضايا العربية، إلا أنها واجهت أيضا أوقاتا صعبة. نشير هنا تحديدا إلى حادثة الاعتداء الاسرائيلى على قافلة الحرية التركية نهاية مايو الماضي، والتي كانت تستهدف الوصول إلى ميناء غزة لكسر الحصار الاسرائيلى الظالم على شعبها. وهو الاعتداء الذي أثار أزمة كبيرة بين تل أبيب وأنقرة، لاسيما وان الأخيرة اعتبرت هذا الاعتداء بمثابة رسالة دموية مفادها أن إسرائيل ترفض تماما المواقف التركية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية، وترفض الحركية التركية الجديدة في المنطقة، كما ترفض اى دور تركي محتمل في تسوية الصراع العربي الاسرائيلى.
الصحيح هنا أن تركيا ورغم موقفها القوى الذي أدان العدوان الاسرائيلى على قافلة الحرية ومقتل 9 من الناشطين الأتراك برصاص إسرائيلي، إلا أنها بدت حريصة على عدم قطع العلاقات مع إسرائيل. وحين هدد وزير الخارجية التركي بعد ثلاثة أسابيع من الاعتداء الاسرائيلى بأن بلاده قد تقطع العلاقات مع إٍسرائيل إن لم تلتزم بالشروط التركية لإنهاء الأزمة، وهى القبول بلجنة تحقيق دولية، وإعادة السفن التركية وتعويض الناشطين عن ضياع ممتلكاتهم وكذلك تعويض القتلى الأتراك، وان تقدم إسرائيل اعتذارا لتركيا عن الاعتداء، ونظرا لرفض إسرائيل هذه الشروط، فقد أعيد تفسير التصريحات التركية بأنها لا تشير إلى قطع فوري للعلاقات مع إسرائيل، ولا تعكس تفكيرا رسميا في هذا الصدد. في الوقت نفسه الذي استجابت فيه أنقرة للضغط الامريكى لكي تفتح قنوات خلفية لتسوية الأزمة مع إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل.
لقد أثبت حادث الاعتداء على قافلة الحرية ومقتل الناشطين الأتراك أن انغماس تركيا في الشئون الإقليمية ملئ بالصعاب ومحمول على التضحيات ودفع الإثمان وليس فقط حصد المكاسب. والمفارقة الأكبر أن تركيا التي رفعت شعار "صفر مشكلات"، اى إنهاء كل مشكلاتها التاريخية مع جوارها الاقليمى المباشر، والقيام بدور نشط لحل مشكلات الإقليم، وجدت أن الطريق ليس دائما طريقا مفروشا بالورود، بل يمتلئ بالدم أحيانا.
* مدير معهد الأهرام الاقليمى للصحافة
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية