أبدى الفيلسوف هيغل، في مكان ما، هذه الملاحظة التي تنطبق، في كثير من الأحيان، على أحداث وشخصيات تاريخية تتكرر على فترتين: تبدو في الأولى تراجيديا وتنقلب في الثانية
إلى مهزلة.. إنه مشهد كاريكاتوري ينطبق على ما يعيشه المغرب في الوقت الراهن.
تتمثل التراجيديا في ما عرفه المغرب في ستينيات القرن الماضي عندما أنشئت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، كان الراحل اكديرة بطلها الرئيس؛ أما المهزلة فتتجلى في ما يراد لنا أن نعيشه اليوم من خلال هذا التحالف الجديد الذي نسجت خيوطه في الكواليس وأسندت مهمة الإعلان عنه، في صفقة مناولة، إلى وزير الاقتصاد والمالية الحالي.
إن الفرق كبير بين مخططي تحالف اليوم واكديرة الذي عمل على بناء أداة تمكن النظام من قاعدة اجتماعية وتكفل له مدافعين عنه، في فترة اتسمت بالصراع على السلطة وكان فيها جزء من الحركة الوطنية والسكان لا يعترف للسلطة بالشرعية. وكان السؤال الرئيس المطروح في تلك الفترة على الحياة السياسية المغربية وجاءت الجبهة التي أنشأها اكديرة لتجيب عنه كالتالي: من يجب أن يحكم؟
لقد صار هذا السؤال متجاوزا بشكل كلي منذ أن صوتت الأحزاب السياسية، ومعها السكان، بأغلبية ساحقة على دستور 1996. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح السؤال الرئيس كالتالي: كيف نحكم؟ لا أحد يناقش، في الوقت الراهن، شرعية المؤسسات القائمة ولا حتى شكلها، فلماذا الإصرار على تذكير المغاربة بخلافات قديمة ورفع رهانات باتت متجاوزة بشكل كلي؟ لماذا العودة إلى إنتاج ممارسات أدخلت المغاربة، في وقت سابق، في نزاعات ومواجهات أفقدتهم وقتا ثمينا وطاقة ووسائل؟
كنا نعتقد أن هذه الأمور صارت من الماضي وأن المغرب سيلج، أخيرا، عهد الحداثة من أوسع الأبواب؛ لكن يبدو أن المدافعين عن الثقافة السياسية المخزنية لا يتبنون هذا الرأي، ولذلك يواصلون تأكيد أن «الربيع العربي» ليس سوى حادث مروري لن يغير شيئا. إجمالا، ثمة خليط بين اللاوعي والغطرسة يقابله عدم تحمل المسؤولية؛ وهو ما يفضي، في نهاية المطاف، إلى الاستفزاز. ويتمثل الشيء الأكثر إثارة للدهشة في كل هذه الممارسات في محاولات البعض ادعاء «عذرية سياسية» في حين يُعتبـَرون، في جزء كبير منهم، سببَ المشاكل التي تعاني منها البلاد في الوقت الراهن.
وينبغي، من الآن فصاعدا، التوفر على طبقة سميكة من «الوقاحة» للتقدم أمام الرأي العام كبديل ذي مصداقية، في حين أن الاحتفاظ بالشرف والتحلي بالاحترام الواجب للذات يفرض على الناطق الرسمي باسم الحركة أن يتحلى بقدر كبير من التواضع وحرية التصرف. ذلك أنكم، السيد وزير الاقتصاد والمالية، ستتركون من ورائكم وضيعة مالية غير مريحة بأي حال من الأحوال. وفي أوساط أخرى، يمكن أن يكلفكم هذا الأمر منصبكم، وربما مساركم السياسي برمته، لولا أن السخرية لا تقتل في بلادنا. كيف نقود المالية العمومية للبلاد نحو عنق الزجاجة ثم نقدم أنفسنا كبديل ومنقذ. أحسنتم، يا له من أداء. وهذا ما يعبر عنه في المثل المغربي العامي التالي: «بـِيع القرد وضحك على من اشراه». المثير للسخرية أيضا أن ناظم خيوط هذه الحركة (أو تحديدا الحاصل على المناولة) يقدم نفسه فاعلا في التاريخ، والواقع أنه ليس سوى خالق للمشاكل؛ يعتقد أنه ينهج استراتيجية من مقام عال، بينما هو يرتع في مناورات من صنف رديء. ولا فائدة في تذكير الذي أوحى إليه بهذه المبادرة قبل أن يتوارى إلى الخلف ويتقدم مع الجمع مقنـَّع الوجه، بأن «الكرنفال» انتهى ووجبت العودة، على عجل، إلى جادة الصواب.
أعظمْ بـِها من خسارة رؤية الحياة السياسية المغربية عاجزة عن منحنا ما يمكن أن نخصب به المستقبل، فقد عشنا زمنا كانت فيه لكلمة «السياسة» بالمغرب معنى وكانت تقوم بالأساس على الالتزام والوفاء للقناعات. وما نراه اليوم على الساحة السياسية ليس سوى جحود وإنكار وانتهازية ودعارة ثقافية. يجعلني هذا الأمر أخشى على مصير بعض الأشخاص الذين كانوا يتوفرون على رأسمال أخلاقي وسمعة حسنة، يوشكون أن يفقدوهما في سوق الانتهازية، وهو ما يمس بحظوظنا في النهضة من جديد. كما أن هذه اللعبة السياسية القديمة تعطي الانطباع للمواطن بأنه بصدد متابعة كوميديا من صنف رديء يؤدي أدوارها ممثلون تافهون ويصرون على الاستمرار في احتلال الخشبة. لن يبقى الجمهور مكتوف الأيدي إلى الأبد، لأن القبح والرداءة لا يمكنهما أن ينالا الإعجاب.
إدريس بنعلي
http://www.almassae.press.ma/node/32269