هسبريس - هشام تسمارت
السبت 19 يناير 2013 - 00:00
يعَدُّ الشاعر والكاتب المغربيُّ، عبد اللطيف
اللعبي، واحداً ممن ذَادُوا في فترة عصيبةٍ بالمغرب عن مبادئَ زجَّ بهم
تشبثهم بهَا في غياهب السجون، التِي لم تكن لتثنِيهم عن الخروج بإصرار
أكبر. وهوَ ما استقدمَ أمس اللعبِي إلى مقهى أدبي بالرباط، لحضور توقيع
المجموعة القصصية الجديدة لأحمد المرزوقي "محنة الفراغ"، حيثُ يواصل الخارج
من جحيم تزمامارت صهر المعاش داخل بوتقة أدبيَّة تتجاوزُ اتشاحهَا بشهادة
عابرة إلى أثر أدبي خليق بالقراءة والتأمل النقديين.
هسبريس التقت اللعبي على هامش اللقاء، وحكَى لهاَ
عن رؤيته لفرادة المرزُوقِي ضمنَ ما كتبَ من لدن من عاشُوا تجربة السجن،
مطالباً المؤرخين بالانبراء إلى تخليد حقبة سنوات الرصاص بأسس علمية. كما
اعتبرَ صاحب "العين والليل" أنَّ صفحة سنوات الرصاص لم تُقرأْ بشكل فعلي
حتَّى يتمَّ طيُّهَا. وأنَّ من واجب المثقف العربي اليوم أن يصطَفَّ في
خندقِ المحرومين والمستضعفين.
حضرتم للتو حفل توقيع عمل جديد لأحمد المرزوقي، وسمَ بـ"محنة الفراغ"، ما هيَ قراءتكم لميلاد هذا الأثر الأدبي الجديد بالمغرب؟
لم أقرأ بعد للأسف المجموعة القصصيَّة الجديدة للأخ أحمد المرزوقي،
لكنني سبقَ وأن قرأتُ "الزنزانة رقم 10"، التي شكلت لِي صدمة بعد قراءتها،
فبالرغم من مروري بتجربة مشابهة، إلا أنَّ تجربتي لم تكن مضارعةً لها من
حيث القساوة. وحتَّى وإن كانت قاسية إلا أنَّ الأمرَ يختلفُ . وأعتقدُ
أنَّ كتاب "الزنزانة رقم10" من الكتب النادرة التي أسست فعلاً لأدب السجون
بمستوى أدبي رفيع، لأنَّ الأعمال التي كانت من قبل شهاداتٌ مختلفة، ذات
قيمة إنسانية ساعدت على تكوين الذاكرة الجماعيَّة حول تجربة الاعتقال
والمعاناة التي رافقتها. لكن مع أحمد المرزوقِي كانَ لأدب السجون مستوَى
مختلف.
لدَى الحديث عن أدب السجون، يبرزُ تساؤل من منطلق
نقدي، قطبُ رحاه اعتمادُ الكتابة على العنصر التخييلي، في حين ينهضُ أدبُ
السجون على حكي تجربة عاشهَا الكاتب، فكيفَ يتأتَّى صهرُ المعاش والتخييلي
في أدب السجون؟
يمثلُ واقعُ السجن كنزاً عجيباً للمخيلة، لأنَّ الأشياء التي تحدثُ في
السجن وهوَ فضاءٌ مغلق أشياءٌ خارقة، على الأقل في ذهن الإنسان الذِي يعيشُ
التجربة، فأيُّ علامة مثلاً، من قبيل دخول طير من الطيور إلى الزنزانة أو
العنبر يشكِّلُ حدثاً كبيراً بالنسبة إلى المعتقلين، لأنهَا تمثِّلُ جزءً
من الحياة في مكانٍ أُعدَّ للموتِ البطيء، الأمرُ الذِي قدْ لا يولَى حظاًّ
كبيراً من الأهمية لمن يوجدونَ خارجَ القضبان.
أستاذ اللعبي، خضتم بدوركم تجربة الاعتقال، وقد
تراكمت إلى اليوم عدة كتابات تصفُ تجاربَ السجون، هل يحقُّ لنا في المغرب
أن نتحدث عن مدرسة مغربيَّة في أدب السجون، ذات خصائص ومميزات قائمة؟
لا أقولُ إنَّ هناكَ مدرسةً، وأجد الأمر بالأحرَى تراكمًا. إذ توجدُ
أعمالٌ متميزة في هذَا المضمار، تكتسِي طابعَ الشهادة التي تحكِي فصولَ
المحنة، والتي لهَا أيضاً مستوى أدبي مختلف عن الكتابات الأخرى. وهنَا
أبدِي ملاحظة؛ وهيَ أنَّ الكثيرين ممن عاشوا تجربة السجن استطاعوا أن
يكتبُوا وذلكَ أمرٌ إيجابي، إلَّا أننا نحتاجُ إلَى مؤرخين، فلا تكفي
الشهاداتُ، لأنها تبقَى ذاتية على الدوام وذات بعد خصوصي. في حين تملِي
الحقبة الراهنة على المؤرخين الاضطلاعِ بدورهم إزاءَ التجربة، التي تمثلُ
إلى جانب كونها طابعا الإنساني، تجربة سياسية أيضاً، وراءهَا تطورات في
الفكر السياسي وفِي الممارسة السياسية داخل الساحة المغربيَّة..فتلكَ
الحقبة من تاريخ المغرب المعاصر لم تتناول من طرف المؤرخين بما فيه الكفاية
إلى حد الآن،
ألمْ تندمل الجراح بالرغم من العمل الذي قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة؟
أبداً، وأنا أعتبرُ وذلكَ ليسَ سراً أبوحُ به الآن، أنَّنَا لم نقرأ
بعدُ صفحةَ سنواتِ الرصاصِ بشكلٍ كافٍ حتّى نقومَ بطيِّهَا. ففي اعتقادِي،
لم تُطْوَ تلكَ الصفحة لأنهَا لم تُقْرَأْ ، ولأنَّ قراءَتَهَا كانَ من
الممكن أن تفرزَ نتائجَ أخرَى غير النتائج التي آلَ إليها عملُ هيئة الراحل
بنزكرِي. إذ لا يمكنُ أن تطوى الصفحة ما لم يعترف الجلادون والمسؤولون عن
عذاب الضحايا والمعتقلين، فالدولة مطالبةٌ بالاعتراف رسمياً بالخروقات، ولا
يكفِي أن نخلقَ هيئة الإنصاف والمصالحة ونعوضَ الضحايا مادياً أو عبرَ
شيءٍ من هذَا القبيل، لأنَّ المسألة مقترنة بذاكرة شعبٍ ووطن. ومن حقِّ
الشعب المغربي أن تكونَ لديه معرفةٌ دقيقةٌ بمَا حدث. ويتوجَّبُ علَى
المسؤولينَ عن المعاناة التي وسمت ممارسات تلكَ الحقبة أن يعترفوا. أنَا لا
أطالبُ هنَا برؤوس ومحاكمات قد تفضِي إلى السجن أو غير ذلك من العقوبات.
لكنني أؤكد فقط ضرورة الاعتراف بما اِقْتُرفَ، لطلب المسامحة من الضحايا
وعائلات الشهداء والمختفين إلى حد الساعة. فعلَى سبيل المثال، لا تزالُ
الدولة متنصلةً من مسؤوليتها في اختطافِ واختفاء وقتل الشهيد المهدِي بن
بركة. وهذَا يعنِي أنَّنَا لم نفتحْ الصفحة بشكلٍ أمين حتَّى نطويَهَا.
أشارَ إليكم المستعربُ الياباني نبو أكي نوتوهارا
في كتابه "العرب من وجهة نظر يابانية" كواحد من المنافحين الأشاوس عن قضايا
الشعب والملتزمين بهَا، فكيفَ تنظرونَ اليوم إلى ما يعتملُ من حراك سياسي
بالمنطقة في سياق ما يعرفُ بـ"الربيع العربي"؟
أعتقدُ أننَا في مرحلة أولَى، فالربيع العربيُّ أو الربيع الديمقراطي،
كانَ لحظةً أساسية في تاريخ شعوب المنطقة، باستعادة الكرامة ورفض
الاستبداد، ما كان يخمن أحد أن تسقطَ الأنظمة الديكتاتورية في يوم من
الأيام. وهذا تطور مهم. وبالطبع فإنَّ المرحلة أعطت نتائجَ معروفة؛
كاستفادة بعض الحركات السياسية من بينها الإسلامية مثلاً، الإخوان المسلمين
في مصر، وحركة النهضة بتونس، التي استفادت من نضال الشباب الذِي خرجَ إلى
الشارع وقدمَ تضحياتٍ هائلة لكنني أعتبرهَا محطة ليس إلا. ونحن نعيشُ اليوم
هذه التجربة معَ حكومة عبد الإله بنكيران، ونرَى النوقص والعجز..
ما هيَ تلكَ النواقص؟
ذلكَ حديثٌ آخر، فقط أقولُ إنَّ الجوهرَ الذي قامت على أساسه
الانتفاضات لم ينحصر في الانعتاق من الديكتاتوريَّة، بل هوَ أيضاً حقوقٌ
وحريات وعيشٌ كريم للموطن، عبر التشغيل والتطبيب والتعليم. فهذه المطالب
العميقة التي صدحت بهَا حناجرُ الشعوب العربيَّة في انتفاضاتِها، وليسَ
التحرر فقط من نير استبداد زعيم أو دكتاتور. لأنَّ المسالة لا تتوقفُ عندَ
إسقاطِ رموزِ الفساد والاستبداد.
يعودُ اليومَ إلى الواجهة بقوة حديث أنطونيُو
غرامشِي عن المثقف العضوي ذِي الارتباط الوثيق بالمجتمع وهمومه، ما دورُ
المثقف العربي فيمَا يجرِي اليوم من أحداث متلاحقة؟
واجبُ المثقف هو تشبثهُ بحريته بصفته مثقفاً، وعدمُ الولاءِ لأية سلطةٍ
كانت، سواء السياسية منها أو الحزبية والايديلوجية. إذ ينبغي أن يكونَ
حرًّا. وحينما يطرحُ فكرةً يفعلُ ذلكَ بحرية ويدافعُ عنهَا باستماتة ولو
كانَ ضدَّ التيار الغالب في الرأي العام. كمَا أنهُ مدعوٌّ إلى الالتزام
بقضايَا الشعب. فمَا هيَ وظيفةُ المثقف إِن هوَ لم يصطف في خندقِ
المحرومينَ والمستضعفين ممن يكابدونَ مرارة الواقع في الكثير من البلدان
العربية؟ فذلكَ واجبهُ ودورهُ لا الوقوف إلى جانب الأثرياء وذَوِي السلطة.